كتاب اليوم
علي سعد الموسى
مجتمع في حالة جمود: نماذج ظلم متكررة
طوال حياتي، مع الكتابة أو خارج أسوارها، وقفت مثل أي منكم مع عشرات الحالات من نماذج الظلم الاجتماعي: بعد أربعين عاماً، بل أكثر، ما زلت أسترسل في قراءة هذه النماذج فألمسها واقعاً تبدلت فيه الوجوه لكن المجتمع لم يتحرك قيد أنملة واحدة كي تكون هذه النماذج في عالم الماضي. تزداد قناعاتي أن المجتمع الخامل هو من يقف اليوم على حالة ظلم مشابهة لتلك الحالة قبل أربعين سنة فلم يتحرك لها بالقوانين ولا بقوى الضغط أو جماعات العمل المؤسساتي الأهلي التطوعي. بدأت طفولتي حافي القدمين لا يبهرني شيء مثل رائحة الخبز الساخن ولكن في كنف والدين حنونين أسبغا علي وإخوتي من العاطفة ما أنسانا تماماً وطأة الحاجة ولكن: ما زال على أطراف القرى تلك، عشرات الأطفال الذين قد لا ينبهرون اليوم برائحة الخبز ولكنهم تحت وطأة الحاجة النوعية يشكلون مشتلاً مثالياً للتطرف أو الشذوذ أو عمالة التهريب والتخريب. شحذت لهم طوب الأرض وتوسلت بعض الأسماء الثرية من تلك التي نبعت من تلك القرى أو تعود إليهم لتبني مركزاً ثقافياً أو مكتبة تحمل لهم اسماً من بعيد الرحيل ولكنهم آثروا رائحة البعارين وبهائم الأنعام ظناً منهم أنها وحدها من يشكر. كلما شاهدت من هؤلاء طفلاً تذكرت طفولتي ولكن: كان زمننا نظيفاً بريئاً لم نكن نخشى فيه تأثير قناة فضائية للمجون أو استغلال - متشيخ - يحضهم على جهاد لا يعرفون فيه تحت أي راية سيقتلون أو حبة تخدير من الكبتاجون في قرية لم يكن فيها على الإطلاق حبة من البنادول. كانت أعتى جرائمنا أن تسرق علبة كبريت من جوار تنور، واليوم، تزخر محافظتي مثلما هي كل محافظاتكم بعشرات البلاغات عن مئات البيوت المسروقة فمن ذا الذي فيكم يستطيع أن يعترض سارقاً لا خوفاً من كيمياء الفطرة في جسده بل إضافات الهيروين والكبتاجون. قبل أربعين عاماً كنت أرقب دموع أرملة تتوسل والدي أن يتوسط لها كي تشاهد ابنتيها من زوج سابق حرمتهما تقاليد القبيلة من أن تنعما بحنان أم حتى ولو لأسبوع في العام ومن يصدق أنني أكتب اليوم تحت دموع ابنتها تلك التي تعيش أسطوانة أمها حذو القذة بالقذة لأن دوائر الحرمان تعرف طريقها إلى ذات الوجوه التي لا تنكر. أربعون عاماً خلت بين مأساتين لأم وابنتها، وكلتاهما أرادتا رؤية طفلين من زواج سابق وما زال القضاء على ذات تقاليد الحضانة وإضبارة ذات الأحكام في دفاتر الضبط. بين أربعين عاماً لم نحرك ساكناً من أجل آلاف الأطفال الذين يسامون سوء العذاب بين أم راحلة وبيوت من قسوة. تحركنا أحياناً بعض قصص المأساة تلك التي طفت على السطح وما خفي كان أعظم.قبل أربعين عاماً كنت أعرف تلك العائلة الفقيرة من أب وأم وأحد عشر طفلاً: كان معدل الإنجاب - لآل أحمد - طفلاً أجزم أنه يتكرر صورة كربونية كل عشرة أشهر. قبل شهر مضى، عادت بي دورة الزمان على أبواب ابنهم الأوسط لنسأل عن الحال وفاء لصحبة الطفولة ثم اكتشفت بعد أربعين عاماً أن أحمد - يكربن - ذات مأساة أبيه: 17 طفلاً يتراقصون بين قدميه من زوجتين فيما كل طفل يلبس البالي الذي كان على ظهر أخيه الأكبر منه بعام. السبب أن المجتمع الخامل الكسول لا يعي حتى اللحظة معادلة الإنجاب المرتفعة لدى الفقراء والأميين. كلما ازدادت العائلة جهلاً وفقراً ازدادت لديها نسبة الإنجاب وهم في هذه الحالة إنما ينتجون قنابل التشرد دون توعية اجتماعية طالما أن المسألة في دائرة - التابوه - فيما الضحايا بالضبط هم هذه الوجوه من البسطاء المعدمين الذين يحلمون برائحة اللحم أو ريال الفسحة المدرسية أو حتى برجوازيتي قبل أربعين عاماً حين كان للخبز الساخن من يد والدتي - يحفظها الله - رائحة تدعو للإبهار. قبل أربعين عاماً بالضبط كان قاموس مجتمعي معدماً فقيراً من مفردات حقوق الإنسان وحقوق الطفل والمرأة ومن مصطلحات تنظيم الأسرة وحق الفرد في الصحة والتعليم. اليوم، توجد مثل هذه المصطلحات ولكن في بطون الورق ونخبوية المثقف ولكن دون عمل مؤسساتي أو حراك قانوني يضمن رفع الحيف والظلم والاضطهاد. مجتمع يحمل اليوم كل صورتين متناقضتين: برجوازية القرن الحادي والعشرين وثرائه الفاحش وفقر العصر القروسطي. سيدة تبحث عن مربية تعلم أطفالها فنون الإتيكيت وأخرى تبحث عن ابنتها من زواج سابق عبر نخوة شيخ القبيلة لا القانون. أربعون عاماً وذات الأنموذج يتكرر بالمطابقة على طرفيها بلا فارق. حين لا تصنع المجتمعات الفرق فهي تأخذ حالة أو اثنتين من حالات المادة: الغازية أو المتجمدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق