محاكمة الدراما الدينية والتاريخية
بعض الكتاب استسهلوا واكتفوا بترجمة الروايات دراميا نواجه عجزاً بحثياً هناك كتاب حرفوا الثوابت التاريخية واستثمروا مساحات الخيال الروائى ليست هناك لجان استشارية فى مجالات التخصص لمراجعة السيناريوهات شجرة الدر جعلت منها الدراما شخصية شريرة رغم أنها أنقذت مصر صلاح الدين الأيوبى فى السينما كانت شخصية رمزاً - وفى التاريخ شخصية لها نوازعها الانسانية عندما استغاث صلاح الدين من المصريين بعدما شهدنا غياباً لافتا للأفلام التاريخية والدينية، لأسباب فنية ومالية وجماهيرية وتسويقية ليس المجال يسمح بالخوض فيها، وجدنا فى المقابل ومنذ مالا يقل عن عشر سنين مداً تليفزيونياً. شهد كثافة فى عرض وتقديم المسلسلات الدينية والتاريخية، وكان عدداً من هذه الأعمال نهبة للمتسرعين فى الارتزاق، غير أن ما قدمته السينما المصرية قديماً وما تقدمه الدراما التليفزيونية منذ سنوات لازال فى حاجة للمراجعة وابداء الرأى. ففى الوقت الذى نقف فيه على حرص القائمين على سينما الغرب، فى الأفلام ذات التخصص، فى عرض المادة السينمائية المكتوبة السيناريو على أصحاب التخصيص نجد عندنا موجة عارمة من الاستسهال لتحقيق سعة فى الارتزاق فى زمن ضن بكتاب الدراما المخلصين الدؤوبين فنجد مثلا فى الأفلام ذات الطبيعة القضائية، والتى تقوم قصتهاعلى المحاماة والمحاكم مستشارين قانونين لمراجعة المادة المكتوبة، ويتكرر الحرص فى الافلام ذات الطبيعة الاقتصادية أو الهندسية أو الطبيعية وغير ذلك حيث لايمكن لأصحاب المهن المتخصصة عند رؤية هذه الأعمال الفنية. أن يقفوا على ملمح اختلاف واحد أو اجتهاد خاطئ واحد، فكل شيء صحيح ودقيق إذ تم عرض المادة الدرامية قبل تنفيذها على المختصين فى كل مجال على حده هذه واحدة. أما الأمر الآخر فمتعلق بالأعمال الدرامية التاريخية التى يرتكن كتابها حرفياً على النص الروائى تماماً كمصدر تاريخى موثوق به وهذا خطأ فادح وحسبنا ما لحق بتاريخنا من تشويه واستخفاف وعبث. وفى هذا نقول ان الأزهر والحمد لله لا يفوت عملاً متعلقاً بالتاريخ الاسلامى إلا وراجعه لكن بقيت أعمال أخرى تقف على نفس الدرجة من الأهمية، وهى الأعمال المتعلقة بتاريخ مصر والتى تقف كذلك فى الوسط بين ما هو دينى وتاريخى. ونتصور أنه من حق أى كاتب روائى ذى خيال واسع ومجنح أن يعمل خياله فى اثراء أى عمل تاريخى، ومعظم أدبائنا قدامى ومحدثين قد حرصوا على الاحتفاظ بالتواريخ والوقائع الأساسية فى هذا التاريخ أما حواشى هذا التاريخ، وما يتضمنه من تفاصيل انسانية ودرامية فمن حقهم أن يعملوا خيالهم فيه وليسبغوا عليه احساسهم الأدبى وبصمتهم الخاصة على أن تظل الثوابت التاريخية أشبه بهيكل أساسى لا مساس به لكن من قبيل الاستسهال والاستخفاف كما ذكرنا بهذا التاريخ بعض الكتاب الكسالى يرتكزون على الثوابت الروائية قبل التاريخية ولم يجهدوا أنفسهم بالبحث الدؤوب أو الاستعانة بالمستشارين الباحثين فى مجال التاريخ. حسناء رشيد رغم أن لدينا اساتذة علماء وهيئات ومؤسسات متخصصة كالجمعية التاريخية مثلا هذا فضلا عن دار الوثائق والكتب، وفضلا عن مئات الكتب التى لا يكلف كاتب الدراما نفسه عناء البحث والتدقيق فيها أو تتملك منه الأنسانية فى فرض رؤيته الخاصة للتاريخ على هواه.. أحد هؤلاء الكتاب أعرفه جيداً قدم أكثر من عمل للتليفزيون المصرى الذى يشاهده الملايين ارتكن الى نصوص وروائية قام بترجمتها الى حوار لا أكثر ومن بين الأعمال التى قدمها هذا السيناريست عمل تاريخى، ترجمه أو اقتبسه، أو اخترعه من رواية لروائى قديم نسيه الكثيرون، وكان العمل يدور حول زبيدة الرشيدية بنت رشيد وبنت محمد البواب تاجر الأرز الرشيدى والتى تزوجها ثالث قواد الحملة الفرنسية على مصر مينو بعد توليه القيادة وبعدما قتل سليمان الحلبى كليبر فى قصر الألف فقد نقل هذا الكاتب ماسنح به خيال الروائى بالمسطرة دون الرجوع الى مصادر تاريخية يوثق بها الحقائق فقال أنها أحبت ابن عمها محمود وضحت بحبها رغم اتفاق العائلتين على الزواج وذلك من أجل بشارة العرافة التى بشرتها بتاج مصر فتزوجت زبيدة البكر بمينو الذى سافر بعد جلاء الفرنسيين وأهملها فى فرنسا ثم هربت وعادت ولو كلف السيناريست العجوز نفسه وبحث فى الوثائق لاكتشف أن زبيدة كانت متزوجة من رجل عثمانى اسمه سليم أغا وكان قد طلقها وانقضت عدتها وكان منيو قد أشهر أسلامه بعد ثلاثة أشهر وفى نفس اليوم أو بعده بيوم تزوجها وهناك وثيقة تضم وثيقتى الاشهار والزواج فى ورقة واحدة أى أنها طلقت ثم تزوجت وهناك تفاصيل فادحة وأكثر مأساوية تناسب مزاج المصريين الحاد المائل للنكد وكان من شأنها أن تجعل القصة التليفزيونية أكثر دقة وسخونة. الناصر صلاح الدين ايضا هناك الكثير من الأفلام التاريخية التى تتناول شخصيات مهمة مثل الناصر صلاح الدين ومثل شجرة الدر التى وردت فى فيلم واسلاماه غير مسلسل أخر عنها عرضه التليفزيون المصرى قبل سنوات وكل هذه الأعمال ينقصها التدقيق التاريخى، فكان الغرض من فيلم الناصر صلاح الدين هو غرض قومى ووطنى يبرز الشخصية النموذج للقائد الاسلامى العربى الذى لا يضطر رغم قوله للحرب إلا للدفاع عن المقدرات الوطنية، وهو القائد الذى لازال يحلم به كل عربى قائد قوى وعادل ورمز، غير أن هناك تفاوتا لا بأس به بين شخصية الناصر صلاح الدين بتاع يوسف شاهين والناصر صلاح الدين بتاع التاريخ وأعنى التاريخ الدقيق الذى كتبه جيش من المؤرخين النقاة وعلى رأسهم ابن الأثير فى مؤلفه الكامل فى التاريخ والذى كان معاصرا لصلاح الدين وطبعا لا نسعى للنيل من هذه الشخصية الرمز الذى ساق الفيلم الكثير من الملامح التاريخية والحقيقية لها لكن مع استغراق عظيم فى المثالية وكما ذكر ثقاة المؤرخين فى كتبهم مثلما جاء فى الكامل فى التاريخ وطبقات بن سعد وغيرهما انه فى عام 559 هجرية كان نور الدين زنكى والياً على دمشق، وكان العاضد على مصر، وكانت هناك الكثير من القلاقل بين العاضد لدين الله ووزيره شاور فى مصر والذى كان ينازعه ضرعام فى الوزارة، فلما أحس شاور حرج موقفه استعان بنور الدين على ضرعام ونزل نور الدين على رغبته وأرسل جيشاً لمصر لنصرته. وكان قائد جيوش نور الدين هو أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين، الذى كان أحد أمراء هذا الجيش، وقد سار حتى بلغ بلبيس فخرج ناصر الدين أخو ضرغام طلاقاته، فواجهه صلاح الدين وهزمه، فتتم إعادة شاور للوزارة بعد مقتل ضرغام غير أن شاور لم يف بوعوده لنور الدين، بل أرسل الى الفرنج يحذرهم من استيلاء نور الدين على مصر مما يهدد مصالحهم، فعلم نور الدين بذلك فسار بجنوده الى حدود بلاد الفرنج الذين كانوا محاصرين شيركوه فى بلبيس لثلاثة أشهرفلما علموا بزحف نور الدين ارتدوا لبلادهم لحمايتها ولم يكف شاور عن ألاعيبه فى إغراء الفرنج، ويذكر أن صلاح الدين تعرض لحصار مرير فى الاسكندرية من الفرنج وفيها صلاح الدين ويعود شيركوه من الصعيد لنجده ابن أخيه فى الاسكندرية ونجح فى ذلك ويذكر ايضا ان العاضد فى مصر استصرخ نور الدين فجهزله جيشاً قويا وعرض شيركوه على نور الدين أن يصطحب معه ابن أخيه صلاح الدين.. الذى قبل كارها السير مع عمه بعدما لاقاه فى حصار الاسكندرية. وتم التخلص من شاور مصدر القلاقل هذه المرة وخلع العاضد الوزارة على شيركوه، الذى مات بعد شهرين فكانت الوزارة من نصيب ابن أخيه صلاح الدين الذى مثلت له هذه الوزارة نقطة الانطلاق وصعود نجمه. ولكن كان هناك الكثير من أمراء الجيش الذين لم يرضوا بتولية صلاح الدين ورأوا أن هناك من هم أحق بالوزارة منه وكان العاضد كما رأى المؤرخون يرى فى صلاح الدين الأمير الأضعف الذى سيكون تحت السيطرة وقد منحه العاضد لقب الناصر ليصبح الناصر صلاح الدين. غير أن أمراء الجيش الذين عارضوا تولى صلاح الدين، أصبحوا مصدر قلق وازعاج له، وكان الوحيد الذى يسانده هو الفقيه الهكارى الذى استطاع اقناع الجميع أن ملك صلاح الدين هو ملكهم الى أن أصبح صلاح الدين نائبا عن نور الدين على مصر. وإذا الحال ينقلب وبدلا من أن يستغيث العاضد بنور الدين من الفرنج وعملائهم أصبح يستغيث بالفرنج ويستقوى بهم على صلاح الدين الذى وقعت احدى رسائل العاضد فى يده فأخفى علمه بها وعزل جميع أفراد الحاشية والخدم واستخدم حاشية أخرى تحت اشراف الخصى بهاء الدين قراقوش كمؤتمن للخلافة. وفى عام 565 هجرية، وفيما لم يكد صلاح الدين يلتقط أنفاسه من معركة تأديب السودانيين اذا بالفرنج ينزلون الى دمياط ويحاصرونها، فأرسل صلاح الدين جنوده عبر النيل وأرسل الى نور الدين يبثه مخاوفه من هذه المعركة، فلم يكن قد استمال المصريين بعد ، وجاء فى هذه الرسالة: أنا إن تأخرت عن دمياط ملكها الفرنج، وان سرت اليها خلفنى الصريون وخرجوا على طاعتى وساروا فى أثرى.. الفرنج من أمامى والمصريون من خلفى فما كان من نور الدين إلا أن هب لنجدته، وجهز لنفسه جيشاً وقام بحركة التفاف وحاصر مراكز الفرنج بالشام فتراجع الفرنج لنجدة مراكزهم وبعد ذلك أمر له العاضد بمليون دينار غير المؤن حتى ان صلاح الدين نفسه أقر بالعرفان للعاضد وأعلن صراحة للمؤرخ ابن الأثير بأنه ما رأى أكرم من العاضد فضلا عن استقبال العاضد لأسرة صلاح الدين أكرم استقبال. وبعدما قويت شوكة صلاح الدين ووطد لنفسه واجتمعت مقاليد الأمور فى يده. سار بجيشه الى بلاد الفرنج فأغار على عسقلان والرمله وغزة ثم ارسل العميد نور الدين يطلب منه قطع الخطبة العاضدية نسبة الى العاضد وأن يقيم الخطبة. المستنصريه نسبة الى المستنصر أمير المؤمنين فخاف صلاح الدين من ذلك لما عرف عن المصريين ميلهم الى العلويين فأرسل الى نور الدين يعتذر لكن سيده لم يقبل الاعتذار وألزمه بتنفيذ أمره، وظل صلاح الدين مترددا الى أن بادر رجل يعرف باسم الأمير العالم وصعد المنبر ودعا للمستنصر واندهش صلاح الدين لعدم اعتراض أحد وعلى أثر هذه الصدمة مات العاضد وقيل انه انتحر اذ ابتلع فصاً من الماس. وفى واحدة من المواقع الهامة له ان الفرنج كان قد تملك منهم العطش وهم سائرون الى طبرية طلباً للماء فقطع عليهم صلاح الدين الطريق. وألقى أحد جنوده النار فى الأرض فانتشرت فى العشب الجاف وكانت الريح فى اتجاه الفرج فصعدوا الى تل حطين يريدون نصب خيامهم فلاحقهم المسلمون ولم يتمكنوا إلا من نصب خيمة ملكهم، وكان الأفضل ابن صلاح الدين واقعاً الى جواره فصاح هزمناهم فقال له أبوه ما نهزمهم حتى تسقط هذه الخيمة وإذا بالخيمة تسقط فخر صلاح الدين ساجدا وكان المسلمون قد أسروا عدداً من الفرنجة وعلى رأسهم أمير الكرك وجماعة من الاستباديين فلما أحضروا ملك الفرنج أجلسه صلاح الدين الى جواره، وأمر له بماء بارد فشرب الملك ثم أعطى ما بقى منه لأمير الكرك فغضب صلاح الدين وقال: هذا الملعون لم يشرب الماء بإذنى وإنه من جميل عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير اذا أكل وشرب من ماء فى أسره أصبح آمناً على حياته، ذلك أنه قال ما يستخف به من الرسول صلى الله عليه وسلم كما انه قتل مجموعة من المصريين الذين ذكروه بمعاهدة الصلح مع صلاح الدين واذا بصلاح الدين قد أوقفه بين يديه قائلا له ها أنا انتصر لمحمد منك وعرض عليه الاسلام فأبى واستكبر فأطاح برأسه ولم يبارزه كما أوضح الفيلم فلما فرغ صلاح الدين من حطين عاد الى طبرية وأرسلت صاحبتها تطلب الأمان لها ولأولادها ولما لها فقبل فخرجت بالجميع وحدد خمسين ديناراً مكافأة لكل من لديه أسير، ثم اتجه الى عكا فإذا بكثير من أهلها يخرجون إليه يطلبون الأمان لأنفسهم وأموالهم فخيرهم بين البقاء والرحيل فرحلوا، وكان صلاح الدين قد ترك أخاه العادل فى مصر. وبعد استيلائه على عكا وإطلاقه سراح أربعة آلاف أسير مسلم مضى ليؤكد سلطانه على بعض المدن العربية والبلاد المحيطة بالقدس ثم قصد القدس اذ بلغ جيشه ذروة احتشاده وكامل عدته لما حققوه من انتصارات ولما رأى الفرنج هذا سلموا له المدينة فى 27 رجب 583 هجرية فى ليلة الاسراء والمعراج، تم تنكيس الصليب الذى كان على قبة الصخرة بعد احتلال دام 93 سنة للقدس وكان الصليبيون قد دفعوا لصلاح الدين عن كل رجل عشرين ديناراً وعن كل امرأة خمسة دنانير وعن كل صغير ذكرا أو أنثى ديناراً واحداً وكان هذا شرطاً هينا وكان فى القدس مسيحيون أرثوذكس ويعاقبه، وكانوا الى صف صلاح الدين ولاسيما رجال الكهنوت حتى أن أحد مستشاريه كان كاهناً أرثوذكسيا يدعى يوسف بتيت وكان لدى جنود وأمراء صلاح الدين أوامر مشدده بعدم التعرض لأى مسيحى أفرنجى أو شرقى بل إنه ضاعف الحراسة على أماكن العبادة فى القدس وأعلن إمكانية زيارة المسيحيين للأماكن المقدسة وفى نهاية الأمر أوصى بدفن جثمانه فى دمشق وقد مات وعمره واحد وستون عاماً . شجرة الدر أما فيما يتعلق بشخصية شجرة الدر فقد وقع الكثير من كتاب السيناريو فى الكثير من الأخطاء التاريخية دونما تقص وتمحيص وتدقيق فخرجت معظم الأعمال مجسدة لشخصيتها باعتبارها شخصية غلبت عليها نوازع الشر من البداية للنهاية رغم أن هذه السيدة بغض النظر عما فعلته فى أيبك وأنها لاقت جزاءً قدرياً بشعاً إلا أنها أنقذت مصر فى واحدة من أحرج فتراتها أما الجميع تقريبا فقد شاهدوا الأفلام والمسلسلات التى تحدثت عنها ولكن بقى لهم أن يحيطوا بالحقيقة التاريخية والتى تسوقها كالآتي: ففى عام 1250م اختار المماليك حاكمهم ولم يكن هذا الحاكم سوى ذات الحجاب الجميل والستر الجليل، والدة المرحوم خليل شجرة الدر وسعوا لإنجاح زواجها من أحدهم وهو عز الدين أيبك، ومن جانبها سكت شجرة الدر النقود باسمها بألقابها الملكية هكذا المستعصمية أى مملوكة الخليفة المستعصم بالله قبل أن يهبها للملك الصالح ثم الصالحية أى مملوكة الملك الصالح ثم ملكة المسلمين والدين الملك المنصور طفلها المتوفى خليل. وكان للماليك بتولية شجرة الدر غرضين الأول هو الاستيلاء على السيادة الفعلية، والتمويه فى الخارج فى مواجهة أصحاب السلطة الأعلى على مصر، فلما تولت شجرة الدر أخذت توزع المناصب والاقطاعات على أمراء المماليك وأغدقت الرزق والأموال والخيول على صغارهم وكانوا زملاءها يقبلون الأرض لها من وراء حجاب وقد اتخذت من عز الدين أيبك ساعدا أيمن لها فى تدبير أمور المملكة، ولكنه لم يكن يتصرف إلا بعد مشورتها. وكانت توقع على المراسيم بخطها والدة خليل ويخطب باسمها على منابر مساجد مصر فيقول الخطباء واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجميل والستر الجليل والدة المرحوم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب. ولأن المسلمين كرهوا أن يتولى أمرهم أمرأة فلم يستجيبوا لهذا التحايل وخرج أهل سوريا عن طاعتها، وبايعوا الناصر يوسف الأيوبى واليا على حلب. كما كان أشد الناس استنكارا الخليفة العباسى المستنصر بالله أبو جعفر، الذى أرسل لأمراء المماليك من يقول لهم اعلموا ان كان ما بقى عندكم فى مصر من الرجال من يصلح للسلطنة فنحن نرسل لكم من يصلح لها ورأى المماليك أن الرسالة تنطوى على الإهانة أكثر مما تنطوى على التهديد فسعوا لمباركة زواجها من عز الدين أيبك التركمانى الذى تولى السلطنة غير أنها ظلت صاحبة الكلمة العليا وهى التى تدبر أمور المال، وتحكم على عقدة الكيس ليدير عز الدين أيبك أمور العسكر ولقد هادنها زماناً، واحتملها زماناً على أمل أن تكشف عن مخبوء الكنوز الأيوبية، بل رضخ لطلبها فى تطليق زوجته أم ولده المنصور.. ولكن هذا لم يغير من الأمر شيئا. فدب التشاحن بين رجل فى شرخ الشباب وزوجته فى خريف العمر كالجوارى اللواتى كن يخرجن من قصر الخديو اسماعيل مثلا ليتزوجن بالأعيان فلما حاول أيبك أن يعيش حياته توسيعاً لنطاق سلطاته خطب ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل بما ليكون فى هذا هلاكه. فانقضى أمره، بأن انقض عليه خمسة من خُدام ذات الستر الجميل فقتلوه داخل الحمام، وقيل بل أعدموه خنقاً بل هناك رواية تقول بأن ذات الستر الجميل جعلت تضربه بالقبقاب على رأسه حتى فارق الحياه، وقيل ايضا انه لما أجهز عليه الخدم استعان بها فكادت ترق له فأمرت الخدم بالتوقف إلا أنهم لم يستجيبوا خشية انتقامه منهم إن بقى على قيد الحياه وأذيع فى صباح اليوم التى وفاة السلطان أيبك، فلم يصدق الناس النبأ اذ لم يبدُ على الرجل يوما أنه يتعجل الرحيل الى هناك. لم تكن السيدة الحاكمة فى كامل قواها العقلية حينما أقدمت على هذه الجريمة، ولعل صوابها قد طاش لوجود امرأة غيرها أكثر شباباً وجمالا، فيما هى على أعتاب تجاوز خريف العمر وما لهذا من علاقة وثيقة بالاضطرابات النفسية لقد قبض اذن على صاحبة الستر الجليل والحجاب الجميل أم خليل، وتم التحفظ عليها فى الترسيم وها هى تدخل نوبات صمت طويل لا يقطعها سوى جمعها لحليها وجواهرها ثم تدقها فى الهون وقد تملك منها الذهول والجنون بعدما قتلت زوجها السلطان هذه القتلة القروية وما ان يتولى ابن أيبك السلطة حتى أرسل مماليكه الى القلعة للتعرف على قتلة أبيه ويقررونهم بالسحل والسلخ والصلب، ويتم اعتقال شجرة الدر فى البرج الأحمر بالقلعة، ثم يتم استدعاء أم على زوجة أيبك الأولى التى طلقها من أجل عيون صاحبة الحجاب الجميل فتأتى أم على وبرفقتها جواريها وتأمرهم بضرب شجرة الدر بالقباقيب حتى الموت فى يوم الجمعة 11 ربيع الثانى عام 648 هجرية ثم سحبوها من رجلها ورموها من فوق السور الى خندق القلعة وهى عريانه ليس عليها سوى سروال فظلت ملقية فى هذا الخندق ثلاثة أيام تلغ فيها الكلاب، وقيل أن بعض الحرافيش نزل الى الخندق فى جنح الليل، وقطع دكة سروالها، لأنها كانت من حرير، وفيها كرة من اللؤلؤ ونافجة مسك، وبعد انقضاء الأيام الثلاثة، تم حملها فى قُفة ودفنت فى مقبرة فى قرافة الإمام على مقربة من مقام السيدة نفيسة. هذه هى قصة شجرة الدر تلك الجارية التى أصبحت زوجاً لسلطان مصر، والتى حكمت مصر فى فترة من أحلك فتراتها ولجأت الى الدهاء وأخفت خبر وفاته عن الرعية، وكانت تدخل الأطباء على جثته لإيهام الجميع بأنه مريض لا ميت حتى لا يزعزع هذا فى نفوس الجنود والرعية وظلت تدير مصر من وراء حجاب، غير انها استطاعت رد الصليبيين عن مصر بعدما احتلوا دمياط وبلغوا المنصورة فى طريقهم الى القاهرة.فبعدما استولى لويس التاسع على دمياط بسهولة تأكد من نصره على المصريين. وفى ليلة النص من شعبان عام 467 هـ 22 نوفمبر 1249م مات السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب فأمرت شجرة الدر بحمله ليلا ووضعه فى أحد المراكب التى سارت به الى قلعة الروضة وعهدت الى الأمير فخر الدين بقيادة الجيش، ورتبت الأطباء ليدخلوا كالعادة الى حجرة السلطان، كما كانت تأخذ الأوامر وتدخل لغرفة السلطان وتخرج منها وهى ممهورة بخاتمه وعلامته، وأرسلت لأبنه تورانشاه ليتولى الحكم، فحفظت للأمة بذلك سلامتها من الفوضى والتمزق، ولما تسرب خبر الوفاة شجع ذلك الفرنسيين فى إحراز المزيد من الانتصارات التى حققوها وقتل فيها الأمير فخر الدين ، ودخل القائد الفرنسى المنتصر الى المنصورة على عجل دون أن يراعى لحاق باقى فرقه به الى أن وصل الى قصر الملك وكان فى حراسة مقر الملك ركن الدين بيبرس الظاهر الذى استطاع ان يصد هجمات الفرنسيين وأن يتحول من الدفاع الى الهجوم فجعل يطاردهم فى شوارع المنصورة التى سدها الأهالى بالمتاريس، فما كان إلا أن أبيدت فرقة الفرنسيين عن آخرها وقتل قائدها. كان وقتها توران شاه قد وصل الى مصر واستقر فى قصر المنصورة وأشرف بنفسه على سير المعركة، التى أنتهت بأسر لويس وأمرائه كل هذا حدث فى عز تفكك مصر. غير أن هذا النصر أدار رأس توران شاه ففقد توازنه بدلا من أن يرد الجميل لشجرة الدر بحفاظها على السلطنة والعرش وراح يتهددها بالعقوبة حينما طالبها بما لديها من أموال أبيه. وأخذ يتهدد ابطال معركة المنصورة الذين حولوا الهزيمة الى نصر وعلى رأسهم بيبرس، حتى انه حينما كان يفرط فى الشراب كان يستل سيفه ويقطع الشموع التى حوله قائلاً هكذا سوف أفعل بمماليك أبى ويسميهم بأسمائهم. مما حدا بشجرة الدر أن تحرض المماليك عليه فهجموا عليه فى محرم 648 هـ وضربوه بسيوفهم وأول من ضربه بيبرس الذى لم تصبه ضرباته بل قطعت أصابعه فقط فالتجأ الى برج أقيم فى فارسكور ليحتفل فيه بالنصر فأحرقوا النار فى البرج كله فقفز الى النيل فظلوا يطاردونه حتى غرق ليقتل سيفا وحرقاً وغرقاً بعدما حكم مصر ثلاثة أشهر لتتزوج شجرة الدر كما أسلفت بعد ذلك من عز الدين أبيك وتمت استعادة دمياط من الفرنسيين، غير أن لويس اتجه للتفاوض مع المغول للإجهاز على العالم الإسلامى ويذكر انه لما أحرز الفارس أقطاى النصر على الاعراب فى مصر وعلى الأيوبيين أصبح نجما يلتف حوله امراء الجيش فحدثته نفسه بالملك، وكان من رجاله بيبرس وسنقر الأشقر وسيف الدين قلاوون فقرر أيبك التخلص منه فبعث إليه لاستشارته فى القلعة فى أمر مهم، فلما وصل أقطاى حالوا بينه وبين رجاله الثلاث ثم قتلوه، وكان وراءه سبعمائه رجل حاصروا القلعة لتخليصه من الاعتقال فما كان من أيبك إلا أن ألقى عليهم رأسه من فوق سور القلعة فأسقط فى يدهم وخافوا على أنفسهم وخرجوا من مصر هاربين قاصدين صاحب حلب أو الخليفة العباسى فى بغداد مما حدا بأيبك أن يخطب ود صاحب حلب بخطبة أبنته بعد انقسام المماليك فى مصر وسوريا بين معارض ومؤيد إلا أن ذلك كلفه حياته على يد شجرة الدر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق